الصوم نعمة، لا ينبغي لكم أن تستثقلوها..

الصوم نعمة، لا ينبغي لكم أن تستثقلوها..

8/5/2019




أستعرض خطباء جمعة مكتب سماحة المرجع (دام ظله) من الوكلاء والمعتمدين جوانب من الآيات الكريمة، لبيانها فيما يهم موضوع الصوم وشهر رمضان المبارك، مباركين في الوقت ذاته الأُمة على هذه النعمة وما لها من أبعاد ذاتية وعائلية واجتماعية ينبغي على كُل من أبناء شعبنا الكريم استلهامها لنيل خير الدنيا والآخرة.

وفيما يأتي جانبٌ من النصوص التي تليت على منابر الجمعة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

قال تعالى في محكم كتابه ومنيف خطابه: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَّعْدُودَت فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم تَعْلَمُون َ* شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَت مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْعَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

* بداية أَيها المؤمنون الأَكارم: نبارك لكم حلول شهر رمضان المبارك هذه النفحة الربانية والضيافة الإلهية والتي ينبغي أَن نستثمرها خير استثمار فأَن الفرص تمرُّ مرَّ السحاب ومن أدرك منا هذا الشهر الفضيل في هذا العام فقد لا يدركه من قابل فبادر قبل فوات الأوان واعتبر هذا آخر شهر رمضان يمر عليك في حياتك فاحسن ضيافته.

* الآيات الكريمة في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإِسلامية، تناولت هذه الآيات أحكاماً لواحدة من أهم العبادات البدنية، وهي عبادة الصوم، وبلغة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فلا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه!، ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، نعم، الصوم عامل فعّال لتربية روح التقوى في جميع المجالات والأبعاد، ولما كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائد المادية، وخاصة في فصل الصيف، فانّ الآية طرحت موضوع الصوم بأساليب متنوعة لتهيّء روح الإِنسان لقبول هذا الحكم.

* ومنها انها ابتدأت أولا بأُسلوب خطابي وتقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو نداء يفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإِنسان، ويشحذ همته، وفيه لذة قال عنها الإِمام الصادق (عليه السلام): لَذَّةُ مَا فِي النَّدَاءِ أي يا أيّها الَّذينَ آمَنُوا أَزَالَ تَعْبَ الْعِبَادَةِ وَالعَنَاءِ، ثمّ تبيّن الآية أن الصوم فريضة كتبت أيضاً على الأُمم السابقة، ثم تبيّن فلسفة الصوم وما يعود به على الإِنسان من منافع، لتكون هذه العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس.

* الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول: (أَيَّاماً مَعْدُودَات)، فالفريضة لا تحتل إِلاّ مساحة صغيرة من أيّام السنة، ثم تقول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ)، فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيّام اُخرى، ثم تصدر الآية عفواً عن الطّاعنين في السنّ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها الفدية، فتقول: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين، ثم تقول الآية: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)، أي من تطوع للإِطعام أكثر من ذلك فهو خيرٌ له، وأخيراً تبين الآية حقيقة وهي: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، استدل البعض بهذه الآية على أن الصوم كان في بداية التشريع واجباً تخييرياً، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نسخ هذا الحكم بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم وأصبح واجباً عينيّاً..!، ولكن ظاهر الآية يدلّ على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أن هذه العبادة ـ كسائر العبادات ـ لا تزيد الله عظمة أو جلالا، بل تعود كل فوائدها على النّاس، والشاهد على ذلك ما جاء في القرآن من تعبير مشابه لذلك، كقوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الجمعة:9، بهذا تبين أن عبارة (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) موجهة إلى كل الصائمين لا إلى مجموعة خاصة.

* وفي آخر الآية إشارة اُخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: (يُريدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، فالصوم ـ وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد ـ مؤدّاه راحة الإِنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوي، ولعل هذه العبارة إشارة إلى أن الأوامر الإِلهية ليست كأوامر الحاكم الظالم، ففي الصوم رخص حيثما كان فيه مشقة على الصائم، لذلك رفع تكليف الصوم ـ على أهميته ـ عن المريض والمسافر والضعيف، ثم تقول الآية: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهراً، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدّة، وحتى الحائض التي أُعفيت من قضاء الصلاة غير معفوّة عن قضاء الصوم.

* (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، الهدف الأسمى لنعم الله على البشر ليس التكامل الجسدي والمادي، بل المعنوي والروحي، والتعرف على النعم وعلى أهميتها، وعلى الفوائد الكبيرة لها، والإنتفاع بها فيما أمر الله، وفيما خصصت النعم لها، والتعرف من خلالها بالتالي إلى ينبوع الخير ومعدن الرحمة، إلى الرفيق الأعلى، كل ذلكم أسمى من الاستفادة الجزئية لهذه النعم حسب الحاجات العاجلة، وكل ذلك يجمعه معنى الشكر.

نشكره تعالى على الهداية والتوفيق.